سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي أصابه جنسُ الضرِّ من مرض وفقرٍ وغيرِهما من الشدائد إصابةً يسيرة {دَعَانَا} لكشفه وإزالتِه {لِجَنبِهِ} حالٌ من فاعل دعا بشهادة ما عُطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ} أي دعانا كائناً على جنبه أي مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي في جميع الأحوالِ مما ذُكر وما لم يذكر، وتخصيصُ المعدوداتِ بالذكر لعدم خلوِّ الإنسانِ عنها عادةً أو دعانا في جميع أحوالِ مرضِه على أنه المرادُ بالضر خاصة مُضجَعاً عاجزاً عن القعود وقاعداً غيرَ قادرٍ على النهوض وقائماً لا يستطيع الحَراك {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي مسه غِبَّ ما دعانا حسبما ينبىء عنه الفاء {مَرَّ} أي مضى واستمرَّ على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساسِ الضرِّ ونسيَ حالةَ الجَهْدِ والبلاءِ، أو مر عن موقف الضراعةِ والابتهالِ ونأى بجانبه {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا} أي كأنه لم يدعُنا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأن كما في قوله:
كأنْ لم يكن بين الحَجون إلى الصفا ***
والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصبِ على الحالية من فاعل مرّ أي مرّ مشبَّهاً بمن لم يدْعنا {إلى ضُرّ} أي إلى كشف ضرَ {مَسَّهُ} وهذا وصفٌ للجنس باعتبار حال بعضِ أفرادِه ممن هو متصفٌ بهذه الصفات {كذلك} نصبٌ على المصدرية وذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ الآتي، وما فيه من معنى البعدِ للتفخيم والكافُ مقحَمةٌ للدلالة على زيادة فخامةِ المشارِ إليه إقحاماً لا يكاد يُترَك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم: مثلُك لا يَبخلُ مكان أنت لا تبخل أي مثلَ ذلك التزيينِ العجيب {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمةِ وإسرافُهم لما إن الله تعالى إنما أعطاهم القُوى والمشاعرَ ليصرِفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خُلقت له من العلوم والأعمالِ الصالحة، فلما صرفوها إلى ما لا ينبغي وهي رأسُ مالِهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافاً ظاهراً، والتزيينُ إما من جهة الله سبحانه على طريقه التخليةِ والخِذلانِ أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الاعراض عن الذكر والدعاءِ والانهماكِ في الشهوات، وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إن في كل منهما إملاءً للكفرة على طريقة الاستدراجِ بعد الأنقاذِ من الشر المقدّرِ في الأولى ومن الضرِّ المقررِ في الأخرى.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون} أي القرونَ الخاليةَ مثلَ قومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم و{من} في قوله تعالى: {مِن قَبْلِكُمْ} متعلقةٌ بأهلكنا أي أهلكناهم من قبل زمانِكم والخطابُ لأهل مكةَ على طريقة الالتفاتِ للمبالغة في تشديد التهديدِ بعد تأييدِه بالتوكيد القسمي {لَمَّا ظَلَمُواْ} ظرفٌ للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلمَ بالتكذيب والتمادي في الغي والضلالِ من غير تأخير، وقوله تعالى: {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} حالٌ من ضمير ظلموا بإضمار قد، وقوله تعالى: {بالبينات} متعلقٌ بجاءتهم على أن الباءَ للتعدية أو بمحذوف وقع حالاً من رسلهم، دالةٌ على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة، أي ظلموا بالتكذيب وقد جائتهم رسلُهم بالآيات البينةِ الدالةِ على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجالَ للتكذيب، وقد جُوِّز أن يكون قولُه تعالى: {وَجَاءتْهُمْ} عطفاً على ظلموا فلا محلَّ له من الإعراب عند سيبويه، وعند غيره محلُّه الجرُّ لأنه معطوفٌ على ما هو مجرورٌ بإضافة الظرفِ إليه، وليس الظلمُ منحصراً في التكذيب حتى يُحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيبَ للذكرى لا يجب كونُه على وفق الترتيبِ الوقوعيّ كما في قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ} الخ، بل هو محمولٌ على سائر أنواعِ الظلم والتكذيبُ مستفادٌ من قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} على أبلغ وجهٍ وآكده فإن اللامَ لتأكيد النفي أي وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادِهم وخذلانِ الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطافَ لا تنجع فيهم، والجملةُ على الأول عطفٌ على ظلموا لأنه إخبارٌ بإحداث التكذيب، وهذا بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطفٌ على ما عطف عليه، وقيل: اعتراضٌ بين الفعلِ وما يجري مَجرى مصدرِه التشبيهيِّ أعني قولَه تعالى: {كذلك} فإن الجزاءَ المشارَ إليه عبارةٌ عن مصدره أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ أي الإهلاكِ الشديدِ الذي هو الاستئصالُ بالمرة {نَجْزِي القوم المجرمين} أي كلَّ طائفةٍ مجرمة، وفيه وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيدٌ لأهل مكةَ لاشتراكهم لأولئك المهلَكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيبُ الرسولِ والإصرارُ عليه وتقريرٌ لمضمون ما سبق من قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} وقرئ بالياء على الالتفات إلى الغَيبة وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالقوم المجرمين أهلَ مكةَ على طريقة وضع الظاهرِ موضعَ ضميرِ الخطابِ إيذاناً بأنهم أعلامٌ في الإجرام ويأباه كلَّ الإباء.


قولُه عز وجل: {ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم} فإنه صريحٌ في أنه ابتداءٌ تعرّضَ لأمورهم وأن ما بينّ فيه إنما هو مبادي أحوالِهم لاختبار كيفياتِ أعمالِهم على وجه يُشعر باستمالتهم نحوَ الإيمان والطاعةِ فمُحالٌ أن يكون ذلك إثرَ بيانِ منتهى أمرِهم وخطابِهم ببتّ القولِ بإهلاكهم لكمال إجرامِهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاكِ أولئك القرونِ التي تسمعون أخبارَها وتشاهدون آثارَها استخلافَ من يَختبر {لِنَنظُرَ} أي لنعاملَ معاملةَ من ينظُر {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهي استعارةٌ تمثيلية، وكيف منصوبٌ على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانعٌ من تقدم عاملِه عليه أي أيَّ عملٍ أو على الحالية أي على أيّ حالٍ تعملون الأعمالَ اللائقةَ بالاستخلاف من أوصاف الحُسن كقوله عز وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ففيه إشعارٌ بأن المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ من الاستخلاف إنما هو ظهورُ الكيفياتِ الحسنةِ للأعمال الصالحةِ، وأما الأعمالُ السيئةُ فبمعزل من أن تصدُرَ عنهم لا سيما بعد ما سمِعوا أخبارَ القرونِ المهلَكه وشاهَدوا آثارَ بعضِها فضلاً عن أن يُنظمَ ظهورُها في سلك العلة الغائيةِ للاستخلاف، وقيل: منصوبٌ على أنه مفعولٌ به أي أيَّ عملٍ تعملون أخيراً أم شراً فنعاملَكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالةٌ على أن المعتبرَ في الجزاء جهاتُ الأعمالِ وكيفياتُها لا ذواتُها كما هو رأيُ القائل بل تكون حينئذ مستعارةً لمعنى أيّ شيء.


{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} التفاتٌ من خطابهم إلى الغَيبة إعراضاً عنهم وتوجيهاً للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتِهم المضادةِ لما أريد منهم بالاستخلاف، من تكذيب الرسولِ والكفر بالآيات البيناتِ وغيرِ ذلك كدأب مَنْ قبلهم من القرون المهلَكة، وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد جوابِهم الآتي حسبَ تحددِ التلاوة {آياتنا} الدالةُ على حقية التوحيدِ وبُطلانِ الشركِ، والإضافةُ لتشريف المضافِ والترغيبِ في الإيمان به والترهيبِ عن تكذيبه {بينات} حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على ذلك، وإيرادُ فعل التلاوةِ مبنياً للمفعول مسنداً إلى الآيات دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدمِ الحاجةِ لتعيّن التالي وللإيذان بأن كلامَهم في نفس المتلوِّدون التالي {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وضعَ الموصولُ موضعَ الضميرِ إشعاراً بعلّية ما في حيز الصلةِ العظيمةِ المحكيةِ عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفِهم من عقابه تعالى يوم اللقاءِ لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذماً لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكر إيذاناً بتعينه {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا} أشاروا بهذا إلى القرآنِ المشتملِ على تلك الآياتِ لا إلى نفسها فقط قصداً إلى إخراج الكلِّ من البين أي ائت بكتاب آخرَ نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحسابِ والجزاءِ وما نكرهه من ذم آلهتِنا ومعايبِها والوعيدِ على عبادتها {أَوْ بَدّلْهُ} بتغيير ترتيبِه بأن تجعلَ مكانَ الآيةِ المشتملةِ على ذلك آيةً آخرى خاليةً عنها وإنما قالوه كيداً وطمعاً في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به {قُلْ} لهم {مَا يَكُونُ لِى} أي ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلاً {أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} أي من قبل نفسي وهو مصدرٌ استعمل ظرفاً، وقرئ بفتح التاءِ وقصر الجواب ببيان امتناعِ ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالةَ ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدّيَ لذلك مع كونه ضائعاً ربما يُعد من قبيل المجاراةِ مع السفهاء إذ لا يصدُر مثلُ ذلك الاقتراحِ عن العقلاء، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأولِ بالطريق الأولى.
{إِنْ أَتَّبِعُ} أي ما أتبع في شيء مما آتي وأذَرُ {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} من غير تغيير له في شيء أصلاً على معنى قصرِ حالِه عليه السلام على اتباع ما يوحى إليه لا قصرِ اتباعِه على ما يوحى إليه كما هو المتبادرُ من ظاهر العبارةِ كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباعَ ما يوحى إلي وقد مر تحقيقُ المقامِ في سورة الأنعام، وهو تعليلٌ لصدر الكلامِ، فإن مَنْ شأنُه اتباعُ الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشيء دونه قطعاً، وفيه جوابٌ للنقض بنسخ بعضِ الآياتِ ببعض وردٌّ لما عرّضوا به عليه الصلاة والسلام بهذا السؤال من أن القرآنَ كلامُه عليه الصلاة والسلام ولذلك قيّد التبديلُ في الجواب بقوله: {مِن تِلْقَاء نَفْسِى} وسماه عصياناً عظيماً مستتبِعاً لعذاب عظيم بقوله تعالى: {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فإنه تعليلٌ لمضمون ما قبله من امتناع التبديلِ واقتصارِ أمرِه عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي، أي أخاف إن عصيتُه تعالى بتعاطي ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراضِ عن اتباع الوحي عذابَ يوم عظيم هو يومُ القيامة أو يومُ اللقاءِ الذي لا يرجونه، وفيه إشعارٌ بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراحِ.
والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتهويل أمرِ العصيان وإظهارِ كمالِ نزاهتِه عليه السلام عنه، وإيرادُ اليوم بالتنوين التفخيميّ ووصفُه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعِه، ولا مساغَ لحمل مُقترَحِهم على التبديل والإتيانِ بقرآن آخرَ من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} بأنه لا يتسهّلُ لي أن أبدلَه بالاستدعاء من جهة الوحي، ما أتبع إلا ما يوحى إليّ من غير صنعٍ ما من الاستدعاء وغيرِه من قِبلي، لأنه يرده التعليلُ المذكورُ لا لأن المقترَحَ حينئذٍ ليس فيه معصيةٌ أصلاً كما تُوُهم، فإن استدعاءَ تبديلِ الآياتِ النازلِة حسبما تقتضيه الحكمةُ التشريعيةُ بعضِها ببعض، لا سيما بموجب اقترحِ الكفرة مما لا ريبَ في كونه معصيةً بل لأنه ليس فيه معصيةُ الافتراءِ مع أنها المقصودةُ بما ذُكر في التعليل، ألا يُرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريحٌ في أن مقترحَهم الإتيانُ بغير القرآنِ وتبديلُه بطريق الافتراءِ وأن زعمَهم في الأصل أيضاً كذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8